الجمعة، 3 أكتوبر 2025

القوى الثلاث في الخدمة الاجتماعية: كيف تُشكل النظريات النفسية التدخل مع الحالات الفردية؟


كأخصائيين اجتماعيين، عملنا اليومي مع الحالات الفردية يتطلب أكثر من مجرد التعاطف والرغبة في المساعدة؛ إنه يتطلب عدسة نظرية قوية تساعدنا على فهم جذور المشكلة، وطبيعة السلوك، ومسار التغيير.

في مجال الخدمة الاجتماعية الإكلينيكية (Case Work)، تُعد النظريات النفسية الرئيسية (القوى الثلاث) بمثابة البوصلة التي توجه التشخيص والتدخل. هذه النظريات هي الإطار الذي يمكننا من "قراءة" العميل ضمن بيئته الاجتماعية.

دعونا نتعمق في كيفية استخدام هذه القوى الثلاث لفهم ودعم عملائنا.


1. القوة الأولى: التحليل النفسي (Psychodynamic Perspective)

تُعتبر هذه القوة بمثابة الأساس التاريخي لفهم السلوك البشري، وارتبطت بشكل أساسي بأعمال سيغموند فرويد وغيره من المحللين.

المحور الأساسي:

التركيز على اللاوعي (Unconscious)، والخبرات المبكرة في الطفولة، ودور الصراعات الداخلية (بين الهو والأنا والأنا الأعلى) في تشكيل السلوكيات والمشكلات الحالية.

كيف تُفيد الأخصائي الاجتماعي؟

  • فهم الجذور: تساعد في فهم أن المشكلات الحالية (مثل القلق أو العلاقات المضطربة) قد تكون مجرد أعراض لصراعات أو صدمات لم تُحل في الطفولة.

  • آليات الدفاع: تمكن الأخصائي من التعرف على آليات الدفاع التي يستخدمها العميل (كالإنكار، والإسقاط، والتبرير) لتجنب القلق، وبالتالي التعامل مع هذه المقاومة في العلاقة العلاجية.

  • التحويل (Transference): تُفيد في تحليل كيفية نقل العميل لمشاعر وعواطف قديمة (تجاه الوالدين مثلاً) على الأخصائي الاجتماعي، مما يوفر نافذة لفهم علاقاته الأساسية.

التدخل المُستلهم:

العلاج المُركز على البصيرة (Insight-Oriented Therapy)، والذي يهدف إلى جعل العميل واعيًا بدوافعه اللاواعية وتاريخه لتفسير مشكلته.


2. القوة الثانية: النظريات السلوكية والمعرفية (Behavioral and Cognitive Perspective)

ظهرت هذه القوة كرد فعل على التحليل النفسي، مركزة على ما هو مُلاحَظ وقابل للقياس.

المحور الأساسي:

التركيز على السلوك المُتَعَلّم (عبر الاشتراط الكلاسيكي أو الإجرائي) وكيف أن الأفكار (المعرفة) تُعدّ الوسيط بين الحدث والاستجابة العاطفية/السلوكية.

كيف تُفيد الأخصائي الاجتماعي؟

  • التغيير العملي: توفر أدوات مُحددة وعملية للتدخل، لا سيما في المشكلات التي تتطلب تغييرًا سلوكيًا فوريًا (مثل الإدمان، نوبات الهلع، أو الرهاب).

  • تشويهات التفكير: تمكن الأخصائي من تحديد التشوهات المعرفية لدى العميل (مثل التفكير الكارثي، التعميم المفرط، أو التفكير الأبيض والأسود) التي تقود إلى مشاعر سلبية.

  • العلاج المعرفي السلوكي (CBT): هذا النموذج هو الأبرز، حيث يتم تدريب العميل على التعرف على أفكاره السلبية، تحديها، واستبدالها بأخرى أكثر واقعية وإيجابية.

التدخل المُستلهم:

العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وجميع فروعه (كالجدلي السلوكي - DBT)، حيث يكون الأخصائي مُعلّمًا ومدربًا لمهارات التكيف والتحكم في الأفكار والسلوك.


3. القوة الثالثة: النظريات الإنسانية والوجودية (Humanistic and Existential Perspective)

ظهرت هذه القوة كاحتجاج على تركيز القوى السابقة على الجانب المرضي أو الآلي للسلوك، مؤكدة على الجانب الإيجابي للإنسان.

المحور الأساسي:

التركيز على إمكانيات النمو الكامنة لدى الإنسان، وحرية الاختيار، وتحقيق الذات (Self-Actualization)، وأهمية المعنى في الحياة.

كيف تُفيد الأخصائي الاجتماعي؟

  • النمو بدلاً من المرض: تُوجّه التركيز نحو مكامن القوة في العميل وليس فقط جوانب القصور أو الخلل.

  • العلاقة العلاجية: تؤكد على أهمية بناء علاقة مهنية حقيقية ودافئة قائمة على التعاطف غير المشروط (Unconditional Positive Regard)، والصدق، والتفهم.

  • تمكين العميل: تدعم مبدأ تقرير المصير (Self-Determination)، حيث ترى أن العميل هو الخبير الأفضل بحياته وهو القادر على إيجاد حلوله بنفسه، ودور الأخصائي هو التسهيل لا الإملاء.

التدخل المُستلهم:

العلاج المُتمركز حول العميل (Client-Centered Therapy) لكارل روجرز، والتدخلات التي تركز على المعنى والقيم.


🤝 التكامل هو مفتاح الممارسة في الخدمة الاجتماعية

في الممارسة الفعلية للخدمة الاجتماعية، نادرًا ما يعتمد الأخصائي على قوة واحدة بشكل مطلق. التحدي المهني الحقيقي هو في التكامل الانتقائي (Eclecticism) بين هذه القوى:

  • نستخدم القوة الأولى (التحليل النفسي): لفهم الخلفية التاريخية وراء المشكلة.

  • نستخدم القوة الثانية (المعرفية السلوكية): لتوفير أدوات ومهارات للتغيير السريع والمُلاحَظ.

  • نستخدم القوة الثالثة (الإنسانية): لتوفير بيئة علاجية آمنة وداعمة تُمكّن العميل وتشجعه على النمو.

هذا التكامل هو ما يجعل الخدمة الاجتماعية مهنة فريدة، قادرة على معالجة الأبعاد الثلاثة للمشكلة: العمق (الماضي)، والسلوك (الحاضر)، وإمكانية النمو (المستقبل).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يتكلم الألم…

🩺  حين يتكلم الألم… قصة حالة طبية كشف فيها الأخصائي الاجتماعي ما عجزت عنه الأجهزة 💠 وصف الحالة: سيدة تبلغ من العمر (42 عامًا) تُدعى “...